قال تعالى : { لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ ، ثُمَّ رَدَدۡنَـٰهُ أَسۡفَلَ سَـٰفِلِینَ ، إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ ..}
أي خلق الله تعالى الإنسان في أحسن هيئة وهذا متضمن لاعتدال خلقته وخلقه على السواء ، فإذا مرض البدن خرج عن ذلك التقويم والاعتدل بقدر مرضه حتى لربما يصل به الحال إلى العاهة الدائمة أو الهلاك .
وإذا ضعف البدن فستراه يتأثر بأقل المؤثرات والتي لربما لا تؤثر على صحيح البدن في العادة .
فإذا مرض البدن آذاه قليل الحر والبرد بينما لا يؤذي الصحيح كثير ذلك ، وهكذا بالنسبة للقلب فإنه مخلوق في أصله على أحسن تقويم أي على الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها سالما من الاعتلال والأمراض فإذا اعتل ومرض ذلك القلب بسبب ما يعرض عليه من المؤثرات السلبية فإنه يصبح ضعيفا قابلا للتأثر بيسير المسببات كضعيف الشبهات والشهوات فيخرج عن اعتداله الفطري بقدر ذلك التأثر ولربما يستمر على ذلك المرض بل ويزداد منه إلم يتدارك الله تعالى صاحبه حتى لربما يصاب بعاهة دائمة ولربما يهلك
(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)
{ وَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُوا۟ وَهُمۡ كَـٰفِرُونَ }
فصل
وكما أن أمراض الأبدان أنواع مختلفة بعضها أشد فتكا من بعض ، فكذلك هي أمراض القلوب بعضها أشد فتكا من بعض خاصة تلك الأمراض الفكرية التي إذا استولت على قلب المرء غلبت على فكره حتى صار بسببها يقلب الموازين ويعكس الأحكام ، فكما أن مريض البدن إذا استولى عليه المرض تنقلب عنده الأمور فيشعر بالحمى الشديدة أثناء البرد القارس والعكس ويطعم الحلو مرا والعكس ، فكذلك اذا استولى مرض القلب على الفكر سلبه العدل والإنصاف والنظر الحكيم حتى صار يعكس الأمور فيرى الحق باطلا والعكس والمعروف منكرا والعكس . حتى لربما يصل به الحال إلى العاهة الدائمة والمرض العضال
(فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) وهذا هو الهلاك بعينه .
ولذا لا تستغرب عند أن تجد قوما يهولون اجتهادات آخرين وإن شئت قلت أخطاء آخرين حتى يخرجونها إلى حد هو أعظم مما هي عليه في الحقيقة فإنه نوع مرض كذلك ، إذ أن السبب في الحقيقة راجع الى نوع من الهوى الخفي وهو الحكم المسبق واستباق الكراهية والبغض في القلب ، فجاءت تلك الأخطاء كالسلالم ليتسلق عليها ذلك القلب المعتل ليلقي بحكمه المسبق على صاحبها !
فلم يكن ينوي ذلك القلب إنصاف ذلك المخطئ أصلا قبل أن يخطئ فكيف بعده ! نعوذ بالله من الهوى وأهله ، فإنه مرض يستشري في القلب على نحو في غاية من الخفاء والخفة إذ أن مادة هوى تحمل في أصلها مادة الخفاء والانتشار مع الخفة ، وهكذا يسري الهوى في القلب حتى يستحكم .
وكما أن البدن إذا اعتل ومرض سلك فيه الإنسان أسباب العلاج ليشفى من مرضه وإلا تفاقم حاله ، فكذلك هي أحوال القلوب مع أمراضها لا بد أن يسلك فيها سبل علاجها والحرص على مداوتها بل واختيار أفضل الأدوية لتحقيق أنفع النتائج ، وكما أن أدوية البدن مهما كانت متنوعة فإنها لا تؤخذ إلا من من جمع بين العلم بها والتجربة وكذلك أدوية القلوب لا توجد إلا عند أصحابها وهم أهل الاستنباط والتجارب النافعة ولذا تجدها مقيدة جلية كثيرة في موروثهم العلمي ككتب ابن حزم ورسائله في مداوة النفوس وابن تيمية ومباحثه في أمراض القلوب وغيرهم رحمهم الله تعالى والله أعلم.