ما هو حكم الغناء وما الدليل على ذلك وهل فعلا كان قد أجازه ابن حزم رحمه الله ؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لا بد أن تعلم أن الغناء ينصرف من حيث الأدلة والتقعيد وكلام أهل العلم إلى معنيين اثنين .
المعازف وآلات الطرب والموسيقى سوآء أكانت مصحوبة بالكلام أم لا وبغض النظر عن ماهية ذلك الكلام الذي يلحن على تلك المعازف فهو لا يغني شيئا عن الحكم مهما كان كلاما نافعا على سبيل المثال . فهذا النوع من الغناء قد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على تحريمه وهو إجماع منضبط قبل أن يخلق الحافظ العلامة البحر أبو محمد ابن حزم رحمه الله ( ويأتي برأيه الشاذ في المسألة والتي مضمونها مشروعيته ولكن على نحو مقيد وخلاصة تقييده في ذلك أنه ليس على سبيل أهل الفسق والمجون وإنما بغرض الترويح عن النفس فقط ومبحثه مشهور من المحلى )
ولذل فإن الإمام ابن رجب رحمه الله في " نزهة الأسماع " نقل الإجماع في تحريم هذا النوع من الغناء عن الحافظ أبي بكر الآجري محمد بن الحسين رحمه الله راوية أبي داود صاحب السنن وصاحب الفريابي وهو صاحب أدب حملة القرآن وقد توفي هذا الإمام في عام 360 من الهجرة أي قبل ولادة الحافظ ابن حزم بأكثر من عشرين عاما فتأمل ! بل ونقل هذا الإجماع من هو أجل منه وأرفع طبقة وإن كان قد عاصره وذلك أن الإمام ابن تيمية رحمه الله في المجموع نقل الإجماع في التحريم عن الإمام الفقيه المعمر إمام الشافعية أبي الطيب الطبري طاهر بن طاهر شيخ الحافظ الخطيب صاحب التاريخ وشيخ الحافظ الفقيه الأصولي أبي إسحاق الشيرازي بل تخرج على يديه والشيرازي هذا عالم أمة وأبو الطيب هذا قديم روى عن أبي الحسن الدارقطني وتعمر أكثر من مائة سنة وكان من أعلم العراقيين بمذهب الشافعي وقد ولد هذا الإمام في عام 348 من الهجرة يعني قبل مولد ابن حزم بأكثر من 40 عاما تقريبا فكل هؤلاء وغيرهم ينقلون الإجماع على تحريم آلات المعازف فكيف يستقيم بعد أن يقال المسألة خلافية لخلاف ابن حزم رحمه الله فيها ! بل الحق أن يقال اجتهد فأخطأ غفر الله له بل وأزيدك فائدة ذهبية دقيقة وهي أن أعظم وأفضل من رد على ابن حزم رحمه الله ردا تأصيليا مختصرا هو ابن حزم نفسه فإن له مبحثا من كتاب الإحكام يرد فيه ردا قويا مفحما على ما استدل به واعتمد عليه هو نفسه في ترجيحه المسألة المذكورة من كتابه المحلى رحمه الله وغفر له ولولا مخافة سراق الفوئد لذكرنا تفصيل ذلك ، وهنا أصل عظيم وهو أن المستقرئ يجد أن العالم الذي تنتظم أصوله في الغالب لمتانتها من الناحية العلمية فإنه إذا أوغل في خطأ فإنه في الأغلب يلتزم في مقالاته المنتظمة ما ينقض ذلك الخطأ لجودة أصوله ابتداءا وهذا كثير حاصل لمن تأمل ، فرحم الله ابن حزم ونفعنا بعلمه وعلم العلماء العاملين أمثاله والعصمة لمن عصم الله وحده .
وأساس هذا الإجماع أدلة كثيرة منها حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه مرفوعًا ( لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحريرَ، والخَمْرَ والمَعَازِفَ ) أخرجه البخاريُّ تعليقًا بصيغةِ الجَزمِ ووصله غيره بسند صحيح كالشمس في رابعة النهار .
تنبيه : وهذا الحكم عام للرجال والنساء ولا يعترض هذا العموم أحاديث سماع الدف والضرب عليه لأنها مخصصة للعموم المذكور ليس إلا وهي مواطن كثيرة مشهورة وبعضها كان في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالدف وإن كان من آلات المعازف إلا أنه مستثنى من العموم السابق على نحو مخصوص وذلك لوجود النص فيه كحديث عائشةَ ( أنَّ أبا بكرٍ رَضِيَ الله عنه دخل عليها وعِندَها جاريتانِ في أيَّامِ مِنًى تُدَفِّفانِ وتَضرِبانِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم متغَشٍّ بثوبِه، فانتَهَرهما أبو بكرٍ، فكشف النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن وَجهِه، فقال: دَعْهما يا أبا بكرٍ؛ فإنَّها أيامُ عيدٍ، وتلك الأيَّامُ أيَّامُ مِنًى ) رواه البخاريُّ .
وأما قولنا على " نحو مخصوص " ترجيحا لما ذهب إليه جمع من أهل العلم سلفا وخلفا ورجحه ابن تيمية وابن القيم وابن حجر وغيرهم كثير ولخصه الحافظ ابن كثير رحمه بقوله ( نقل غيرُ واحدٍ من الأئمة إجماعَ العُلَماءِ على تحريم اجتماعِ الدُّفوفِ والشبَّابات، ومن النَّاسِ من حكى في ذلك خلافًا شاذًّا، وأمَّا انفرادُ كُلِّ واحدٍ مِن الدُّفِّ واليراع ( القصبة ) ففيه نزاعٌ في مذهب الإمام الشافعيِّ، والذي عليه أئمَّةُ الطريقة العراقية التحريمُ، وهم أقعَدُ بمعرفةِ المذهبِ مِن الخُراسانيِّين، ويتأيَّدُ ما قالوه بالحديثِ المتقَدِّم - يعني حديثَ ( ليكونَنَّ من أمَّتي ) ولا يُستثنى من ذلك إلَّا ضَربُ الدُّفِّ للجواري - الصَّغيراتِ - في مثلِ الأعيادِ، وعند قدومِ الغائبِ المُعَظَّم، وفي العُرسِ، كما دلَّت على ذلك الأحاديثُ، كما هو مقَرَّرٌ في مواضِعَ، ولا يلزمُ من إباحة ذلك في بعضِ الأحوالِ إباحتُه في كلِّ حال ) انظر ( مُلحَق كتاب الكلام على مسألة السَّماع لابن القيِّم ص473 ).
وبالنسبة لبيان كلام العلامة ابن حزم والرد عليه مفصلا موسعا فعليك بكتاب هو من أجمل ما كتب في ذلك واسمه ( تحريم آلات الطرب والرد من الوحيين على ابن حزم ومقلديه ) للإمام الألباني رحمه الله .
وكان من أشهر من قلده ونافح عنه في ذلك الشذوذ من المعاصرين وكتب وأجلب العلامة ابن عقيل الظاهري صاحب أبي تراب اللغوي الحافظ المشهور الذي قال في الكوثري رأيته ذكي مغرور وابن عقيل هذا صاحب دين وذكاء وحفظ ولغة وأدب واطلاع وصحة عقل مع كبر سن وله مناظرة مشهورة مع القصيمي المفتون وهي ضمن كتابه " ليلة في جاردن سيتي " وكان متشبعا بحب أبي محمد جدا وهذا الذي أوقعه في ذلك الزلل ، فحب الشيء يعمي ويصم ثم إنه تراجع تراجعا مشهورا بعد عمر طويل مذعنا عن سقوط هذا المذهب بكلام نفيس فراجعه ورحمة الله تغشاهم جميعا واعلم أن مثل أبي محمد ابن حزم يحب كذلك والأمثلة كثيرة .
هذا مع إقرارنا بأن الخلاف في الدف حاصل مشهور من حيث ضربه يكون ممن واستماعه يكون لمن ولماذا ! والخلاف بينهم دائر بين التقييد والإطلاق .
إذا فليست المسألة المتعلقة بالدف من موارد القطع ناهيك أن تكون موردا للتبديع أو التفسيق ولكن الأرجح هو ما تقدم لظواهر الأدلة والنصوص وسدا للذرائع والله أعلم .
هو بمعنى تلحين الكلام سواء أكان شعرا أو نثرا بصوت المتكلم على نحو يطيب للسامع دون استخدام المعازف وأدوات الطرب فإن شئت أسميته غناء أو حداء أو إنشادا أو شيلات الكلام أو زاملا أو غير ذلك من المسميات القديمة أو الحديثة أو الأصيلة أو المستحدثة أو الفصيحة أو الدارجة فكل ذلك واقع على حقيقة واحدة وهي ما تقدم . فهذا النوع من الغناء حصل فيه كلام كثير وتفصيل وتقييد بل وإجماع في نوع من أنواعه وخلاصة كلامهم هو أن حرامه حرام إجماعا ومكروهه شبهة متروكة أقرب للحرمة وحسنه حسن مباح .
فأما المحرم فهو ما كان فيه مجون وفسق وهتك للأعراض وإثارة للشهوات ونحو ذلك من باطل الكلام المفضي إلى البعد عن الله وعن القرآن فهذا النوع لا يختلف أهل العلم في تحريمه ولو لم تصحبه المعازف فإذا صحبته الموسيقى كان أشد في الإثم ومنه كذلك أن يكثر الإنسان من إنشاد المباح حتى يغلب عليه فيبعده عن الذكر .
وأما مكروهه فكل ما لا فائدة صحيحة فيه تعود على دنياك وأخراك فهو فقط من زغل الكلام وزبده كالتغني بمعلقة طرفة بن العبد ونحوها ولا يعني هذا الاستغناء عن أشعار العرب الأول التي تجمع بين الفصاحة والتاريخ لا وإنما القصد بيان حكم التغني بها وإنشادها وهو معنى أخص .
وأما حسنه المباح فما كان له مقصد حسن كالتغني بالمنظوم من العلوم ليسهل حفظها ومراجعة فوائدها كما هو معمول في ألفية الشاطبي مثلا ومنه التغني بما فيه تثبيت النفس على الأخلاق الحميدة كالصبر والكرم والشجاعة ونحو ذلك ومنه ما جاء في الصحيحين عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَادٍ، يُقَالُ لَهُ : أَنْجَشَةُ. وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ، لَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ ". قَالَ قَتَادَةُ : يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ. وللفائدة فإن هذا التفصيل هو خلاصة أنواع الشعر الذي يدور عليه دائرة الغناء . ولذا قال الإمام الحافظ الجهبذ الذهبي أحمد بن عثمان في كتابه زغل العلم ( الشعر من فنون المنشئ وهو كلام حسنه حسن وهو قليل وقبيحه قبيح وهو الأغلب ..... والشاعر المحسن كحسان والمقتصد كابن المبارك والظالم كالمتنبي والسفيه الفاجر كابن الحجاج والكافر كذوي الإتحاد فاختر لنفسك أي واد تسلك ! ) .
انتهى والله أعلم