السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
كيف نفهم هذا الأثر " من علامة أهل البدعة الوقيعة في أهل الأثر "
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أخي الكريم وفقنا الله وإياك .
اعلم أن هذا الأثر على نحو خاص وغيره كذلك قد سيء استخدامهم من البعض على نحو كبير والسبب هو سوء فهم هؤلاء البعض لقضية كيف ينبغي أن نفهم الآثار قبل أن نطبقها واقعا في قضايا الأحوال .
ولذا قبل الشروع في جوابك على نحو مباشر أحب أن أذكر مفهومين في غاية من الأهمية ينبغي استحضارهما عند تناول هكذا آثار وهما فحوى كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول مبينا منهجية التعامل مع مقالات وآثار السلف : “ فهذا أصل عظيم فتدبَّرْه فإنه نافع ، وهو أن ينظر في شيئَيْن في المقالة : هل هي حق ؟ أم باطل ؟ أم تقبل التقسيم فتكون حقًا باعتبار باطلًا باعتبار ؟ وهو كثير وغالب ، ثم النظر الثاني في حكمه إثباتًا أو نفيًا أو تفصيلًا ، واختلاف أحوال الناس فيه ؛ فمن سَلَكَ هذا المسلك أصاب الحق قولًا وعملًا وعرف إبطال القول وإحقاقه ”
وقال : “ وكنت أبيّن لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين ”
ويقول أيضًا : “ فإذا رأيت إمامًا قد غلّظ على قائل مقالته أو كفّره فيها ، فلا يعتبر هذا حكمًا عامًا في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحقّ به التغليظ عليه والتكفير له ".
أما المفهوم الأول وهو الذي عبر عنه ابن تيمية بأول الشيئين ونجمله بقولنا " سلامة التأصيل " :
وهذا يتناول صحة الأثر عن قائله ثم صحته من حيث أصول التشريع ومقاصده إذ أن تلك الآثار ليست أدلة بذاتها بل هي أقوال لأهل العلم فيها الحق وفيها الخطأ فهي ابتداءا مما يستدل لها قبل أن يستدل بها ثم صحة فهمها على مراد وقصد قائلها ثم النظر في الأسباب والأحوال التي قيلت فيها .
وهذا هو الشيء الأول الذي قصده ابن تيمية بقوله " حق أم باطل " و" هل تقبل التقسيم.. " إذ لا يمكن ذلك إلا بسلامة فهم تلك المقالة على النحو الصحيح بالاعتبارات السابقة على أقل مقدار، وأما أن تتناول الآثار بفهم كل أحد أي فكل يفهمها على ما يبدوا له دون موافقة واقعة الأثر وقصد القائل فهوى صرف بل هو أخذ قول على نحو لا يريده صاحبه !
وأما المفهوم الثاني وهو ثاني الشيئين في كلام ابن تيمية ونجمله بقولنا " سلامة التنزيل " :
أي أنه بعد أن تؤصل الآثار بفهم صحيح فلا بد من تنزيلها على الوقائع بوجه يليق بمقاصد التشريع عموما وبمقصد قائلها خصوصا وهذا هو المقصود من قول ابن تيمية رحمه الله : " وكنت أبيّن لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين " .
لأن التفريق بين الإطلاق والتعيين في تنزيل مقالات السلف التي تتناول معاني الوعيد هو ما تقتضيه أصول التشريع من العدل وإقامة الحجج والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعذر بالجهل والخطأ ونحو ذلك .
وأما أن يحمل كل قول سلفي على عمومه مضطردا على كل حال ومآل منفصلا عن ملابسات وقائع تلك المقالة فهو فهم سقيم وتنزيل خاطئ بل هو نوع غلو ولفحة هوى ،
إذ تصير بذلك دليلا قائما بذاتها من جنس الأدلة الشرعية من كتاب أو سنة أو إجماع ، ولهذا قال رحمه الله “ فإذا رأيت إمامًا قد غلّظ على قائل مقالته أو كفّره فيها ، فلا يعتبر هذا حكمًا عامًا في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحقّ به التغليظ عليه والتكفير له " والله المستعان .
وبعد المقدمة السابقة لنطبق المفهومين السابقين على ضوء الأثر السابق في سؤالك :
قال أبو حاتم الرازي رحمه الله ( علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال الآثار وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر مجبرة وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة ) حكم الأثر : صحيح . أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( ج 1 / ص 197 )
ثم اعلم أن أبا حاتم رحمه الله إنما يتكلم عن أصناف المخالفين بالنسبة للسنة وأهلها فذكر من علاماتهم الوقيعة في أهل الأثر ونسبت القوم إلى الآثار مقصودة في كلامه بدليل ذكرها خاصة دون غيرها في تلك الجملة مع التعبير عنهم بغيرها في قوله " أهل السنة " أي أن وقيعة المبتدعة في أهل الأثر إنما هي لاستمساكهم بالآثار وأنهم من أهلها هذا من وجه . والوجه الآخر ترى أنه ذكرهم على وجه الاجتماع فقال أهل الأثر ثم قال أهل السنة ونحو ذلك ولم يخصص فردا أو عالما أو إماما . وهذا واضح .
فيتلخص لنا من الوجهين السابقين أن علامة المبتدعة الوقيعة في أهل الأثر والسنة بسبب ما هم عليه من التمسك بالآثار والسنن وليس بسبب اجتهاد آحادهم أو رأيه الخاص !
وهذه الوقيعة تستلزم أن تكون في جل أهل الأثر والسنة وليس فردا أو عالما بعينه وهذا واضح .
بل إن الناظر المنصف يعلم أنه أراد وقيعتهم في أهل الأثر بسبب تلك الأصول العقدية التي يتفقون عليها ولذا ذكر مسألة الأخذ بالسنن واتباع الآثار " دعوى أنهم حشوية " ، ومسألة التعطيل وإثبات الصفات " دعوى أنهم مشبهة " ، ومسألة القدر وأفعال العباد " دعوى أنهم مجبرة " ، ومسألة الإيمان وزيادته ونقصانه " دعوى انهم نقصانية " ومسألة الصحابة وآل البيت " دعوى أنهم نواصب " .
فهذه خمس مسائل هي من ضمن أصول أهل السنة والجماعة المجمع عليها فيما بينهم لم يخالفهم فيها إلا من وقع في بدعة بغض النظر عن حكمه وحاله .
ولم يقصد بحال أنه إذا اختلف بعض العلماء المعروفين بالسنة في مسألة علمية كانت أو عملية وكان الخلاف راجعا إلى أدلة وقرائن قد تظهر لقوم ولا تظهر لآخرين ثم بلغ الخلاف أن وقع بعضهم على الآخر أن هذا من علامات البدعة ! فضلا أن يستلزم التبديع ! إذ أن كلا الطرفين يقصد اتباع الأثر والأخذ بالدليل واتباع الصواب ! فغاية ما يقال في هكذا حال أن بعضهم اجتهد فأخطأ وآخر اجتهد فأصاب وأما الوقيعة فإلى الله تعالى شأنها .
وهذا حاصل في كثير من المتقدمين سلفا وخلفا وليس شرطا قط أن تكون تلك الوقيعة مؤدية إلى التبديع مطلقا . بدليل أن الإمام الحافظ أبا حاتم نفسه رحمه الله لم يبدعه أحد وكان قد وقع في جمع من الأفاضل بل بعضهم من رجال الصحيح ! بل ترك صاحب الصحيح نفسه كما هو معلوم في محنة خلق أفعال العباد وقد قال في الإمام مسلم رحمه الله " صدوق " ولم يرفعه إلى ثقة ! لتشدده في الجرح ولم يقبل منه ذلك أهل العلم ولم يلزم من ذلك تبديعه أو تبديع من وقع فيهم أصلا على نحو مطلق .
ولذا قال الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ (2 | 420) : « قد عُلِمَ تعنُّت أبي حاتم في الرجال » . وقال في السير (13 | 81) : « يُعجبُني كثيراً كلام أبي زُرعة في الجرح والتعديل. يَبِيْنُ عليه الورَع والمَخبِرة ، بخلاف رفيقه أبي حاتم ، فإنه جَرّاح » . وقال في السير (13 | 260) : « إذا وَثَّقَ أبو حاتم رجلاً فتمسّك بقوله . فإنه لا يوثِّق إلا رجلاً صحيح الحديث . وإذا لَيَّن رجلاً أو قال فيه " لا يُحتجُّ به "، فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه ، فإن وثقه أحدٌ ، فلا تبنِ على تجريح أبي حاتم ، فإنه مُتَعَنِّتٌ في الرجال ، قد قال في طائفةٍ من رجال الصحاح " ليس بحجة "، " ليس بقوي " ، أو نحو ذلك » .
وقال ابن حجر في مقدمة الفتح ( ص441 ): « أبو حاتم عنده عَنَتٌ ». قال ابن تيمية في مجمع الفتاوى (24 | 350): « وأما قول أبي حاتم " يكتب حديثه ولا يحتج به "، فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجة في اصطلاحه، ليس هو الحجة في اصطلاح جمهور أهل العلم ».
فهذا كله ليس منزلا في الوقيعة التي قصدها أبو حاتم رحمه الله في كلامه إذ أنه من الاجتهاد في الدين وهم بين مصيب ومخطئ ، وإنما هو منزل على الوقيعة التي يقع فيها أهل الباطل في أهل الحق لاستمساكهم بالسنن والآثار لا بمطلق اجتهادات وآراء آحادهم .
والله أعلم .