1)فائدة أصولية منهجية إيمانية:
أقول إن البحث عن المفهوم الإيماني التعبدي في ثنايا الأحكام الشرعية وتحقيقه اعتقادا وعملا وتبليغا لهو أصل الأصول وآكد الأمور إذ أنه ما من حكم شرعي إلا وكانت المقاصد الإيمانية والغايات التعبدية هي عمدة قيامه وخلاصة أركانه.
واعلم أن المقصود من هذا المفهوم هو تحصيل أثر تلك الأحكام الشرعية على النفوس بما يفضي إلى تحصيل الإيمان فيها و زيادته من خلالها .
وإنك لتجد هذا التأصيل جليا واضحا منتشرا في جل آيات القرآن وأحاديث الأحكام بصور مختلفة و صيغ متنوعة فتارة بإيجاب تحصيله وتارة بالترغيب في ذلك ومدح أصحابه وتارة بصيغ السلب كالتحذير من التخلف عنه .
ومن ذلك على سبيل التمثيل للقراء لاعلى سبيل الحصر والإستقراء تجد أن آية الحيض وحكمه ختمت بإيجاب التوبة لله تعالى وبيان منزلتها عند الله تعالى فقال (إن الله يحب التوابين ) فالعمل بما تقضيه آية الحيض من الأحكام و الأوامر سبيل لتحصيل الطهارة التي يحبها الله تعالى .
و من وقع في شئ مما يخالف ذلك فلابد أن يبادر إلى التوبة إلى الله تعالى ليلتحق بالقوم الأول ، فصارت الاحكام في آية الحيض بهذا المفهوم سبيل لمعاشر التائبين المتطهرين .
ومن ذلك آية الوضوء ختمت بما حاصله وجوب استحضار نعمة الله في ذلك الحكم وغيره وشكره على ذلك فقال(وَلِیُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) فنعم الله تعالى كثيرة واعظمها تلك النعم الشرعية التي رأسها الإسلام ثم العلم باحكامه وهذا حقه كله الشكر لله تعالى كما يليق بجلاله وتحصيل مثل هذا المفهوم سبيل لتحقيق تلك الأحكام مع يترتب عليها من آثار إيمانية على حد سواء ونحو ذلك كثير جدا .
ومن أوضح الأمثلة في كتاب الله تعالى على ما سبق آيتان عظيمتان في موضعين مختلفين في القرآن ذكر الله تعالى فيهما هذا المفهوم على نحو بلاغي عظيم و صياغة في غاية من الفصاحة متنوعة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات ليتبين المعنى المقصود على أكمل وجه .
أما الأولى فهي في سورة البقرة في قول الله تعالى :
(( لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ …إلى قوله... وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ)
وبيان ذلك أن الله تعالى بين للمؤمنين أن المقصد الشرعي من تحويل القبلة من جهة بيت المقدس (المشرق) إلى جهة الكعبة (المغرب) ليس هو لذات الجهة فقط إذ أن المشرق والمغرب كله لله كما قال الله تعالى
(قل لله المشرق والمغرب ) .
بل إن هذا التحويل مقصده الأساس وركنه المراس هو تحقيق الإنقياد للأمر الشرعي المذكور وذلك عندما شق ذلك التحويل على بعض الصحابة رضي الله عنهم لأمور كنها اعتيادهم على القبلة الأولى ، وبين الله تعالى في خلال ذلك أثر ذلك الإنقياد على الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين فكان محصل ذلك مفهوم في غاية من الأهمية وهو أن الإنقياد لأحكام الشريعة مطلقا يعتبر سبب لزيادة الإيمان بجميع أركانه.
وأما الآية الثانية فهي في سورة الحج في قول الله تعالى :
(لَن یَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاۤؤُهَا وَلَـٰكِن یَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ كَذَ ٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِینَ)
فبين الله تعالى أن مقصود الأضاحي في ذلك اليوم العظيم يوم النحر وما يليه من أيام التشريق إنما هو بالمقام الأول تحقيق للتقوى بالتضحية لله تعالى كما أمر .
والتي هي بلاغ لأعظم منازل الإيمان ألا وهو الإحسان ولذا ختمها بقوله تعالى
(وبشر المحسنين).
ومن ذلك أنك ترى أن الإحسان وصف سابغ على هذه الشرعة من أولها كما في الآية إلى منتهاها هند ذبحها كما في حديث "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" وهذا كله مقابل بإحسانه تعالى علينا ابتداءا إذ أنه سخرها لنا فوجب الشكر علينا وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان .
ومن السنة ما جاء عند بعض أهل السنن صحيحا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ.
ومنه ما في البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعا (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ)
فبين أن مقصود القيام والصيام إنما هو الإنقياد لشرع الله تعالى عموما وأن تحصيل تلك العبادات لا يتم إلا باستقامة النفس على شرع الله تعالى من وجوه أخرى وهذا هو "فقه النفس" على الحقيقة والأدلة في ذلك كثيرة.
بل إن من أعظم المواضع في القرآن دلالة على هذا المفهوم الإيماني هو قول الله تعالى : (سبحان ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ)
إذ أن الله تعالى وصفه في هذا المقام الرفيع العظيم بالعبودية وبين أن الله تعالى أنه إنما أسرى بعبده محمدا صلى الله عليه وسلم ليريه الآيات العظيمات الدالة على عظم قدرة الله جل جلاله والتي من خلالها يتوطن قلبه في مقام العبودية ليثبت جنانه في تبليغ فالخبر ليس كالمعاينة ولذا طلبها إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله ليطمئن قلبي .
فكانت نتيجة تلك المعجزة الباهرة مع ما تخللتها من تشريعات عظمية مزيد تثبيت لإيمانه عليه الصلاة والسلام.
والخلاصة:
أن تتبع المفهوم الإيماني التعبدي بحثا وتحقيقا وتعليما وتطبيقا لهو كفيل بزيادة الإيمان والرسوخ في الدين إذ أنه الأصل الذي يتحقيق مقام العبودية التي يتسابق اليها المصطفون الأخيار كما قال الله تعالى (ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَیۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَیۡرَ ٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِیرُ)
2) أمثلة أخرى لبيان معنى المفهوم الإيماني التعبدي في ثنايا الأحكام الشرعية :
ومن أمثلة تحقيق هذا المفهوم معرفة أن الغاية الأعظم من القيام في الصلاة هو بذل جهد النفس ونصبها وتعبها في ذات الله تعالى تعظيما و شكرا لله تعالى لما أولاها من النعم العظيمة .
ولذا كان أفضل الصلاة طول قنوتها "وهو مرادف للطمأنينة في جميع الأركان كما اختار ذلك ابن تيمية رحمه الله" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام حتى تتفطر قدماه شكرا لله تعالى كما في الصحيح عن الْمُغِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ : " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ".
ومن ذلك كذلك معرفة أن أحكام الركوع والسجود في الصلاة غايتها تحقيق الخضوع و الذلة لله العظيم الكبير المتعال تقربا إليه جل وعلا ولذا كان أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد ولذا قال تعالى
{ أَلَّا یَسۡجُدُوا۟ لِلَّهِ ٱلَّذِی یُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَیَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ } وأن التذلل والخضوع للخالق هو حقيقة الرفعة لأنه سعي في تحقيق العبودية لله والتي هي أرفع المنازل ومن لم يعز نفسه بالسجود للخالق أهان نفسه بالخضوع للخلق قال تعالى :
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ ومَنْ فِي الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنَّجُومُ والجِبالُ والشجرُ والدوابُ وكثيرٌ مِنْ الناسِ وكثيرٌ حَقَّ عليهِ العذابُ ومن يُهنِ اللهُ فمالهُ من مُكرمٍ إنَّ اللهَ يفعلُ ما يشاءُ.)
ومن ذلك أن الصيام بقدر ما هو إمساك عن الطعام والشراب والجماع تعبدا لله هو كذلك انقياد لأمر الله تعالى في الإمساك عن المباحات طاعة واستجابة لله تعالى ولذا قال الله تعالى في آية الصيام "لعلكم تتقون" فهو المعطي وهو والممسك ما كان لنا الخيرة بل له جل وعلا.
ومن ذلك أن بذل صدقة الفطر بقدر ما هي غنية للفقراء في ذلك اليوم ليفرحوا كبقية الناس ويشعروا بشعورهم من دون نقص كما قال عليه الصلاة والسلام أغنوهم في هذا اليوم .. هي كذلك تنقية للصوم مما علق به من اللغو و الرفث والنقص كما جاء في الصحيح، فيتواضع العبد لربه ولا يعجب بعبادته وإنما يفرح بنعمة الله عليه في إتمامها.
وهكذا بالنسبة للزكاة والحج وإذا كان هذا المقصد والمفهوم حاضرا حاصلا بنصوصه الكثيرة القاطعة في أركان الإسلام فكيف بدون ذلك من الأحكام وما فيها دني .
فهذه كلها حكم بالغة ومقاصد عظيمة و التفكر فيها يزيد من الإيمان ويرسخ في الإعتقاد وهي سبيل الرسوخ في العلم والعمل وهو الأمر الذي أنيط به الفرق بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ومن هنا سميت الصلاة إيمانا في قول الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم . والله الموفق.
(إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِیدࣱ).