هل يفرق بين قراءة كتب من عرف ببدعة ( لأجل الإستفادة ) وبين مجالستهم ؟ أو كلاهما لا يجوز ؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اعلم أن الأصل في الأخذ عن أهل البدع ومجالستهم هو المنع سدا لذريعة الضرر وهذا المعنى هو الذي دل عليه قول الله تعالى : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ... الآية ﴾ [الأنعام:٦٨] . واعلم أن ترك الأخذ عنهم إنما هو فرع مبني على أصل سلفي وهو هجرهم وهجر ما هم عليه من الباطل وقد جاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : « الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ». وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَا تُجَالِسْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ مَمْرَضَةٌ لِلْقُلُوبِ . وجاء عن الحسن وابن سيرين قالا ( لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُمْ )
اعلم أن التفريق بين القراءة والمشافهة كما جاء في كلامك ليس صحيحا على إطلاقه إذ أن ذلك يعتمد على ماهية الملقي والمتلقي فتارة قد تكون القراءة أشد أثرا على البعض من المشافهة وتارة العكس وهو الأغلب . فكل بحسبه إذا فالحكم يكاد يكون متطابقا بينهما .
هناك فرق بين المفاعلة ومطلق الفعل ، فمطالعة كتب أهل البدع ومجالستهم ومدارستهم إلخ لا شك أنها أخطر وأضر وأبعد وأصرح في المنع المذكور آنفا لأن فيها مادة مفاعلة التي تدل على المداومة والمكاثرة . وأما مطلق الفعل مثل الجلوس والأخذ والنظر والاستفادة ونحو ذلك فهي أخف من الأولى وهذا واضح .
وقولنا " الأصل " لأنها قضية يتفرع منها أحوال يرتفع فيها ذلك المنع لتحقق المصلحة الراجحة كما أثبت ذلك لسان حال ومقال أكثر السلف رحمهم الله تعالى ولذا قال الإِمَامُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرحِ السُّنَةِ : ( وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي رِوَايَةِ الْمُبْتَدِعَةِ، وَأَهْلِ الأَهْوَاءِ، فَقَبِلَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، إِذَا كَانُوا فِيهَا صَادِقِينَ، فَقَدْ حَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل عن عَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ الرَّوَاجِنِيِّ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، يَقُولُ: حَدَّثَنَا الصَّدُوقُ فِي رِوَايَتِهِ الْمُتَّهَمُ فِي دِينِهِ عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ بِمُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الأَلْهَانِيِّ، وَحَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ الرَّحَبِيِّ، وَقَدِ اشْتَهَرَعَنْهُمَا النَّصْبُ، وَاتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَلَى الاحْتِجَاجِ بِأَبِي مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ الضَّرِيرِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، وَقَدِ اشْتَهَرَ عَنْهُمَا الْغُلُوُّ. وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فَيَقُولُ: «لَا يُؤْخَذُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَاحِبِ هَوًى، يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ، وَلا مِنْ كَذَّابٍ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَتَّهِمُهُ بِأَنْ يَكْذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، ذَكَرَ هَذَا الاخْتِلافَ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ هَؤُلاءِ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ فِي كِتَابِهِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُكْتَبُ عَنِ الْمُرْجِئِ وَالْقَدَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ ؟ قَالَ : نَعَمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيُكْثِرُ الْكَلامَ فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ دَاعِيًا، فَلا .اﻫ )
إذا فهي نسبية وكل بحسبه لأن علة التحريم عموما هي الإضرار ، ويرتفع ذلك المنع متى ما تحققت المصلحة الراجحة وانتفى الضرر والحكم يدور مع علته وجودا وعدما . والله أعلم .
فكيف نفهم الأثر الوارد عن الإمام ابن سيرين رحمه الله وذلك أن صاحب شبهة أراد أن يقرأ عليه قرآنا فأبى ابن سيرين ذلك ووقوع الإضرار بعيد لأنه إمام حافظ عالم ؟
هب أن الأمر كما وصفت فأين المصلحة من استماعه لقراءة مبتدع ؟! ونحن إنما نتكلم عن المصلحة المتحققة والضرر المنتفي ! إذا فابن سيرين على حد توصيفك إنما فعل بالأصل المذكور آنفا وهو صواب .
هذا أثر أخرجه الإِمَامُ الدَّارِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي ” سُنَنِه أو في مقدمتها “ (٤١١) قال أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: دَخَلَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَا: يَا أَبَا بَكْرٍ نُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ ؟ قَالَ : « لَا » ، قَالَا: فَنَقْرَأُ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ: « لَا، لتَقُومَانِ عَنِّي أَوْ لَأَقُومَنَّ » ، قَالَ: فَخَرَجَا ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا أَبَا بَكْرٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْكَ أَنْ يَقْرَآ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ قَالَ : « إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْرَآ عَلَيَّ آيَةً فَيُحَرِّفَانِهَا، فَيَقِرُّ ذَلِكَ فِي قَلْبِي » . إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ .وأخرجه الآجري في الشريعة (١٢١) من طريق سعيد بن عامر به .
إذا اشتمل الأثر على التالي :
فإذا تبين لك ذلك لم يكن فيه ما يخالف الأصل المذكور .
واعلم أن فهم هذا الأثر وغيره مثله كأثر الإمام أيوب السختياني رحمه الله على هذا النحو هو الذي يتماشى مع هدي عامة السلف بل ومقاصد التشريع كذلك كما بيناه في غير هذا الموضع .
لابد أن تنتبه يا أخي الكريم إلى المنهج الصحيح في فهم الآثار الواردة عن السلف والعلماء وكيفية الاعتضاد بها في مواضع النزاع وتنزيلها تنزيلا صحيحا على الواقع العملي . إذ أن هذه القضية في غاية من الخطورة وتحتاج إلى انتباه شديد إذ أن هذه الآثار والأفهام مهما كان أصحابها علماء إلا أنها إجمالا مما يستدل لها لا أن يستدل بها مطلقا وعليه فإن الفهم الصحيح لها لا بد أن يتطابق مع مقاصد التشريع العامة ليعتضد بها في القضايا على نحو صحيح ولا ينسب السلف إلى التناقض وحاشاهم ،ل أنها في الغالب قضايا أحوال فلا بد من النظر في ملابسات تلك الأحوال وأسبابها وأزمانها وقرائن مجيئها كما نبه على ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله وغيره .
وأما أن تعامل تلك الآثر معاملة الأدلة الشرعية فتنزل على كل حال ومقال بغض النظر عن تلك الملابسات والوقائع والأحوال فلا ، فإن حفها دليل قاطع فالعمدة على الدليل أو إجماع صحيح فالمرجع إليه . والله أعلم
إذا فنحن ننكر المجالسة والمخالطة والمداومة في من تحققت بدعته لأنها توقعك في الضرر ولذا هب أنك تريد أن تجلس مرة واحدة مع رجل يتحقق ضرره إليك فهل يجوز لك ذلك ؟ الجواب لا..
وعلى العموم أنصحك أن تطّلع على كلام لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذا الباب . ومن ذلك كلامه الجميل المحرر في باب الهجر والذي هو أصل هذا الباب كما تقدم ومنه قوله رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (٢٨/ ٢٠٣) : الْهَجْرُ الشَّرْعِيُّ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ . وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا .
هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .وقَوْله تَعَالَى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } .فَهَذَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ الْمُنْكَرَاتِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِثْلَ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ يَجْلِسُ عِنْدَهُمْ . وَقَوْمٌ دُعُوا إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا خَمْرٌ وَزَمْرٌ لَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . بِخِلَافِ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَوْ حَضَرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَلِهَذَا يُقَالُ : حَاضِرُ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } . وَهَذَا الْهَجْرُ مِنْ جِنْسِ هَجْرِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . فَإِنَّهُ هَجْرٌ لِلْمَقَامِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُمَكِّنُونَهُ مِنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} .
الْهَجْرُ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ ، وَهُوَ هَجْرُ مَنْ يُظْهِرُ الْمُنْكَرَاتِ يُهْجَرُ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ : الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ . حِينَ ظَهَرَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْجِهَادِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَمْ يَهْجُرْ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا .فَهُنَا الْهَجْرُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ. وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ لِمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَظَالِمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَنَّهَا بِدَعٌ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: إنَّ الدُّعَاةَ إلَى الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ، وَلَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْعِلْمُ، وَلَا يُنَاكَحُونَ . فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ لَهُمْ حَتَّى يَنْتَهُوا؛ وَلِهَذَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ؛ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِخِلَافِ الْكَاتِم فَإِنَّهُ لَيْسَ شَرًّا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ}. فَالْمُنْكَرَاتُ الظَّاهِرَةُ يَجِبُ إنْكَارُهَا؛ بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا عَلَى صَاحِبِهَا خَاصَّةً.
وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِ حَالِهِ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرُهُ إلَى ضَعْفِ الشَّرِّ وَخِفْيَتِهِ كَانَ مَشْرُوعًا. وَإِنْ كَانَ لَا الْمَهْجُورُ وَلَا غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ بَلْ يُزِيدُ الشَّرَّ وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ بِحَيْثُ يَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يُشْرَعْ الْهَجْر، بل يكونُ التَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنْ الْهَجْرِ. وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعُ مِنْ التَّأْلِيفِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفُ قَوْمًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ. كَمَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لَمَّا كَانَ أُولَئِكَ كَانُوا سَادَةً مُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ فَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنُونَ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ فَكَانَ فِي هَجْرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ وَتَطْهِيرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعَدُوِّ الْقِتَالُ تَارَةً وَالْمُهَادَنَةُ تَارَةً وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ تَارَةً كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْمَصَالِحِ.
وَجَوَابُ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَلِهَذَا كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَثُرَتْ فِيهَا الْبِدَعُ كَمَا كَثُرَ الْقَدَرُ فِي الْبَصْرَةِ وَالتَّنْجِيمُ بِخُرَاسَانَ وَالتَّشَيُّعُ بِالْكُوفَةِ وَبَيَّنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمُطَاعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا عَرَفَ مَقْصُودَ الشَّرِيعَةِ سَلَكَ فِي حُصُولِهِ أَوْصَلَ الطُّرُقِ إلَيْهِ .
وَإِذَا عَرَفَ هَذَا فَالْهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ . فَالطَّاعَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِهِ فَتَكُونُ خَالِصَةً لِلَّهِ صَوَابًا . فَمَنْ هَجَرَ لِهَوَى نَفْسِهِ أَوْ هَجَرَ هَجْرًا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ كَانَ خَارِجًا عَنْ هَذَا .
وَمَا أَكْثَرَ مَا تَفْعَلُ النُّفُوسُ مَا تَهْوَاهُ ظَانَّةً أَنَّهَا تَفْعَلُهُ طَاعَةً لِلَّهِ . وَالْهَجْرُ لِأَجْلِ حَظِّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنَّ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي هَذَا الْهَجْرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَمَا لَمْ يُرَخِّصْ فِي إحْدَادِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا؛ إلَّا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا » .
فَهَذَا الْهَجْرُ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ حَرَامٌ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي بَعْضِهِ كَمَا رَخَّصَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَهْجُرَ امْرَأَتَهُ فِي الْمَضْجَعِ إذَا نَشَزَتْ. وَكَمَا رَخَّصَ فِي هَجْرِ الثَّلَاثِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ اللَّهِ وَبَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ نَفْسِهِ . فَالْأَوَّلُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالثَّانِي مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: « لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: « أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ». وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذْ اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ » .
وَهَذَا لِأَنَّ الْهَجْرَ مِنْ " بَابِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَهَذَا يُفْعَلُ لِأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ .. اه