قال الله تعالى : { فَٱسۡتَقِمۡ كَمَاۤ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡا۟ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ (112) وَلَا تَرۡكَنُوۤا۟ إِلَى ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِیَاۤءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَیِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفࣰا مِّنَ ٱلَّیۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَـٰتِ یُذۡهِبۡنَ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ ذَ ٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّ ٰكِرِینَ (114) وَٱصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ (115) } [سو هود ]
هذه الآيات جمعت من المفاهيم الدينية ما يعجز اللسان عن وصفها والقلم عن رسمها ومن تلك المفاهيم الدينية مفاهيم منهجية عملية أجملها في خمسة مفاهيم :
بيان معنى الاستقامة من جهة بيان أضدادها وهي هنا بمعنى الوسطية في الدين بين طرفي الطغيان والركون .
أما الطغيان فهو طغيان أهل الكتاب في مجاوزة الحد بغلوهم في الدين حتى فرقوه ففارقوه باختلافهم فيه ، وأما الركون فهو ركون الانسلاخ وعدم الإكتراث بالشرائع وذلك طريق الذين ظلموا أنفسهم إذ لا يتوبون إلى الله ولا هم يستغفرون فينتهون عما هم فيه بل يستمرون على ما هم عليه حتى تمسهم النار .
فصارت الاستقامة هي القيام على شرع الله كما أمر الله تعالى فهي وسط بين الطغيان المفضي للغلو ومن ثم الخلاف والتفرق وبين الركون المفضي إلى الغفلة ومن ثم مجانبة التوبة وظلم النفس بجرها خلف أهوائها مع الظالمين أنفسهم حتى الانقطاع والهلاك .
فرحم الله الحسن البصري حين قال ( جَعَلَ اللَّهُ الدِّينَ بَيْنَ لاءَيْنِ " ولا تَطْغَوْا " - " ولا تَرْكَنُوا " )
فلا استقامة مع مناهج الغلو أو الانسلاخ وتبعد التوبة عن أصحابها إلا أن يشاء الله تعالى .
ولذا فالإنحراف السلوكي عند الغلاة والجفاة أظهر من أن يستدل على قبحه لمنافاته الظاهرة للفطرة السوية .
الاستقامة لا تعني الكمال والعصمة في مسمى القيام على شرع الله تعالى بل هي وصف منطبق على من يلازم أمر الله تعالى دائما بطلب مواطن الاستقامة وإن اعتراه ما ينافي معنى الاستقامة في حال دون آخر إذ أنه متى ما بدا له الإنحراف عن جادة الاستقامة فهو رجاع تائب متجرد في تطلب الحق .
واعلموا أن لفظ استقم أمر أصله من استقام وجذر الكلمة قام والألف والسين والتاء تدل فيها على معنى الطلب وهذا الطلب في وضع الشارع وصفه الدوام والإطلاق .
فآل إلى نوع من الجهاد الدائم للنفس بالقيام على أمر الله في كل موارد الشريعة ، أي أن اللفظ موح بنوع من المجاهدة الدائمة في سبيل إبراء الذمة من الطلب الشرعي المتمثل بوجوب العمل بأحكام الشرع كما أمر الشارع وهذا هو معنى الاستقامة على الحقيقة . فمهما تعرض المكلف إلى ما ينافي معنى الاستقامة فلا بد عليه أن يراجع نفسه ليقوم على شرع الله تعالى كما أمر .
ولذا تجد أن الله تعالى وصف أتباع نبيه صلى الله عليه وسلم بالتائبين إشعارا بعدم كمالهم مثله إلا أنهم من معاشر المستقيمين لتحقيقهم مسمى التوبة حتى وصفوا بها في مقام ذكر استقامتهم .
وهكذا في قوله تعالى : وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَیِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفࣰا مِّنَ ٱلَّیۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَـٰتِ یُذۡهِبۡنَ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ ذَ ٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّ ٰكِرِینَ
فهذا تعليم لمن سلف ذكرهم بأن سبيل تنحية أنفسهم عن ما ينافي الاستقامة وهي هنا السيئات الصغائر هو الإستزادة من الحسنات .
إذا فمعاشر المستقيمين قد يقع منهم الخطأ والسيئ ولكنهم متى ما استبان لهم فهم التائبون وزد عليه أنهم حريصون على الاستزادة من الحسنات بالإكثار من العبادات كالصلوات .