كيف نجمع بين وصية العلماء في أن طالب العلم يبدأ بحفظ القرآن وأن الصحابة كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يفهموا معانيها ويعملوا بها
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
إعلم وفقك الله تعالى أن وصية البدء بحفظ كتاب الله تعالى لمن انبرى لهذا الشأن العظيم أي شأن العلم والدعوة إلى الله تعالى هي أولا وصية الله تعالى في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم آمرا إياه بالبدء به مع قومه عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى (إِنَّمَاۤ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَـٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِی حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَیۡءࣲۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ وَأَنۡ أَتۡلُوَا۟ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ) وقوله تعالى (وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا) وغير ذلك.
ثم هو أمره عليه الصلاة والسلام لأصحابه نصا و تعريضا فأما النص ففي مثل قوله عليه الصلاة والسلام : "مَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ" فإن هذا إنما كان في أول الأمر تقديما للقرآن وتثبيتا وتمييزا له في قلوبهم فلما تم ما أراد أذن بالكتابة لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح أكتبوا لأبي شاة ومن ذلك صحيفة علي وكتاب عمرو بن حزم وغير ذلك مما علمنا وما لم نعلم بل قد ثبت عن بعض الصحابة كتابة غير القرآن كعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين .
وأما التعريض فهو الحاصل الظاهر من جمع قوله عليه الصلاة والسلام "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَهِّمْهُ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ" مع قوله "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" . وحاصل ذلك هو أن الحديث الأول فيه إثبات الخيرية في الفقه في الدين والدين اسم جامع لعلوم متعددة منها علم القرآن وهذه الخيرية في نص الحديث على نحو مشترك فيها جميعا ثم إن تنصيص الحديث الثاني على علم القرآن تخصيصا له عن بقية أفراد العلوم الدينية بمعنى زائد لأن التخصيص فرع من التنصيص ولا معنا زائدا صحيحا في هذا المقام إلا التقدم والبداءة والأولية أما الأهمية المطلقة فهي وإن كانت في حق القرآن كذلك ولكنها في حق المتعلم نسبية وفيها تفصيل كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولذا فإن الوصية بالبدء بالقرآن للمشتغل بالعلوم الدينية درج عليها السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم من العلماء الراسخين في كل عصر وحين وقد نص عليها أئمة المذاهب الأربعة ومن إليهم ونص عليها الأوزاعي وابن يمان وابن كهيل ونصوص هؤلاء في غاية من الشهرة لحسن سياقاتها ولذا فإنك تجد أن جل من ألف في آدب العلم والطلب من أهل العلم الراسخين قد أدلى وأكثر في هذا المقام ولذا نص عليه ابن عبدالبر وابن حزم والنووي والذهبي وابن جماعة بل ونقل ابن تيمية فيه الإجماع رحمهم الله جميعا.
لا تعارض بين نصوص الأئمة التي ذكرت فقول عمر رضي الله عنه محمول على حال مخصوص وهو حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء زمن التشريع ونزول القرآن خاصة في الفترة المدنية التي شرعت فيها الأحكام ، فإنهم كانوا يقرؤون و يتناقلون ويتعلمون القرآن بحسب نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيما ينزل أحكام جديدة منها ما ينسخ ما مضى ومنها ما يثبت حكما جديدا وغير ذلك وكل ذلك مما يجب عليهم فهم والعمل بمقتضاه من حينه فمن ذلك آية القتال والدية والحيض والربا والعدة والدين والوصية والحجاب وغير ذلك فمثل هذه الآيات نزلت معشرة يعني محدودة بعدد مخصوص تارة عشرة وتارة تزيد وتارة تنقص عن العشرة والعرب تسمي مثل هذا تعشيرا تسهيلا فيحفظوها ويكتبوها ويتناقلوها فيما بينهم ليتنشر العمل بمقتضاها وعليه فقس .
وليس المراد أن هذا هو سبيل الصحابة الأوحد لمن أراد أن يحفظ القرآن بل إن وصف بعضهم ذلك ب"طريقة السلف في حفظ القرآن!! " في غاية من البعد بدليل أن الصحابة أنفسهم لم يفعلوه لزاما مع من قرأ عليهم القرآن وهم أقرأ الناس وأولى الناس بأصح السبل لتعليم القرآن ، ولذا فإن أَبِا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا : فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
ومعلوم أن السلمي هذا وهو ابن حبيب المدني الكوفي قد تعلم من عثمان في أول أمره ثم عرض القرآن كله على علي بن أبي طالب ثم كله على ابن مسعود كذلك ثم ذهب مقرئا إلى الكوفة إلى خلافة يزيد وهو في كل ذلك صاحب سنة ينشر الحديث .. فأني يتسع عمره للوقوف مع كل عشر آيات ناهيك عن عمر ووقت من عرض عليهم لا سيما وهم أمراء المسلمين?!
إذا ليس المقصود من نصوص التعشير هو بيان طريقة حفظ القرآن لكل حال من الأحوال بل القصد هو بيان كيف جمع الصحابة في زمن التنزيل بين الحفظ والفهم والعمل .
اعلم أن المستقرئ لأدلة الإقراء وتعلم القرآن في زمن النبوة ثم الصحابة يجزم أنه لم يكن على سبيل واحد بل كانت أوجه ومراحل الإقراء والتعليم متعددة فمن تلك الأوجه والمراحل ما ذكرت في سؤالك وهو وجه التعشير وذلك بقصد الجمع بين الحفظ والفهم والعمل كما تقدم ، ومن تلك الأوجه وجه آخر وهو وجه التلقي الخاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مرحلة تعلم الأداء اللفظي لكلمات القرآن من فم رسول الله إلى أذن مستمع بعينه بقصد تعليمه منفردا ليكون مبلغا معينا في تعليم القرآن في ذلك الزمن الشريف وبعده ومن ذلك حديث ابن مسعود "لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً " ولم يذكر التعشير قط ! وفيه حديث أبي بن كعب كذلك في سورة البينة ، ومن تلك الأوجه قراءة المتعلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يقرأ والنبي يسمع كما في حديث ابن مسعود في القراءة من سورة النساء ومن تلك الوجوه كذلك وجه التلقي العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قراءته في الصلوات الجهرية وفي خطب الجمعة ونحو ذلك ، ومنها وجه تلقي القراءات من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه حديث ابن عباس وعمر وغير ذلك ثم إن هذه الأوجه الثلاثة منزلة على أصحابه في تعليمهم صحابة أخر أثناء حياته عليه الصلاة والسلام وفي ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "استقرئوا القرآن من أربعة" ثم الثلاثة الأوجه صارت في أصحابه بعد مماته وقبل اجتماع الناس على مصحف عثمان في تعليمهم التابعين ثم وجه آخر وهو وجه تعليم الصحابة القرآن للناس بعد اجتماعهم على مصحف عثمان ورسم زيد رضي الله عنهم جميعا وغيرذلك...
إن هذا التغاير في أوجه ومراحل تعليم القرآن في زمن الصحابة رضي الله عنهم يفيد أن هذا هو السبيل الصحيح في تعلم وتعليم القرآن أي لكل مقام مقاله ، إذ أن التغاير دليل اختلاف الداعي ولذا قال جمع من أهل العلم في من ابتدأ طلب العلم كبيرا بحيث لا يحفظ إلا إذا استغرق وقته كله أو جله أن يحفظ ويأخذ من القرآن ما يقيم به صلاته فرضا ونفلا ثم يجعل من وقته ليتعلم كيف يقيم تلك الصلاة ونحو ذلك ، وأما الصغير الذي يسهل عليه حفظ القرآن فعليه أن يكثر منه لأنه مستطيع لذلك دون تضييع غيره مما يحب عليه .. وعليهما فقس.
خامسا :
حقيقة ونصيحة فخذها أو دع ( حظك من العلم بقدر حظك من القرآن ) ، (ومن كان مضيعا للقرآن فهو لغيره أضيع).
والله أعلم